كتب / الدكتور هاني السعيد
يظل الإمام الأكبر الدكتور عبدالحليم محمود شيخ الأزهر الراحل
علامة بارزة وبطلاً من أبطال حرب السادس من أكتوبر لعام 1973
الشيخ عبد الحليم محمود
العلامة الزاهد الورع
فالشيخ عبدالحليم محمود الذي كان علامة للزهد والورع لم يغفل دوره الوطني في أن يكون أيضا من أبرز أسباب النصر في حرب السادس من أكتوبر لعام 1973، وحملت خطبه الرنانة والحماسية خلاف رؤيته المنامية للرسول صلى الله عليه وسلم بشارات وفرحة لمصر والعالم العربي والإسلامي على حد سواء.
ولد الشيخ في 2 جمادى الأولى 1328هـ، 12 مايو 1910م، بعزبة أبو أحمد قرية السلام مركز بلبيس بمحافظة الشرقية، ونشأ في أسرة كريمة مشهورة بالصلاح والتقوى، وكان أبوه ممن تعلم بالأزهر لكنه لم يكمل دراسته فيه.
والده هو الشيخ محمود علي أحمد أحد قضاة المنطقة في ذلك الوقت من تلاميذ الإمام محمد عبده فكان يعد ابنه الأكبر عبد الحليم محمود الإعداد المتواصل ليكون من حملة لواء الأزهر، وكان لحياة الإمام الشيخ عبد الحليم محمود في رحاب الأزهر الشريف منذ مطلع صباه الفضل في تهيئته ليبرز كعالم محقَّق يطابق قوله فعله.
حفظ القرآن الكريم ثم التحق بالأزهر سنة 1923م حصل على العالمية 1932م ثم سافر إلى فرنسا على نفقته الخاصة لاستكمال تعليمه العالي حيث حصل على الدكتوراه في الفلسفة الإسلامية عن الحارث المحاسبي سنة 1940م، بعد عودته عمل مدرسا لعلم النفس بكلية اللغة العربية بالأزهر ثم عميدا لكلية أصول الدين سنة 1964م وعضوا ثم أمينا عاما لمجمع البحوث الإسلامية، فنهض به وأعاد تنظيمه وعين وكيلا للأزهر سنة 1970م فوزيرا للأوقاف وشئون الأزهر، وصدر قرار تعيين الشيخ عبد الحليم محمود شيخا للأزهر في 27 مارس 1973م.
وللشيخ أكثر من 60 مؤلفا في التصوف والفلسفة، بعضها بالفرنسية، من أشهر كتبه: أوروبا والإسلام، والتوحيد الخالص أو الإسلام والعقل، وأسرار العبادات في الإسلام، والتفكير الفلسفي في الإسلام، والقرآن والنبي، والمدرسة الشاذلية الحديثة وإمامها أبو الحسن الشاذلي.
خطبته أثناء المعركة
بدأ الشيخ عبدالحليم محمود خطبة الجمعة التي واكبت حرب السادس من أكتوبر، بالحمد لله والثناء عليه، مشيراً إلى أنه في مثل هذا اليوم من السنة الثانية من الهجرة كان المسلمون يعسكرون في بدر، وقد أذن الله لهم بالقتال ذلك لأنهم قتلوا وأخرجوا من ديارهم بغير حق، إلا أنهم يقولون ربي الله.
وتابع: الأسباب التي ذكرها الله تعالى في محكم التنزيل "ظلموا وقتلوا وأخرجوا من ديارهم وهي نفس أسباب الحرب الحالية، فقد قتلونا وأخرجنا بغير حق، فاللهم انتصر لنا كما انتصرت لأهل بدر، اللهم بدر أخرى تنصر فيها أولياءك كما نصرتهم في بدر.
حديثه بعد النصر
وجه الإمام الراحل عبدالحليم محمود خلال حديثه النادر عقب انتصار أكتوبر، الشكر للمولى تبارك وتعالى على ما كتبه للأمة المصرية والعربية والإسلامية، من رده كيد حتى تكون كلمة الله هي العليا، كما بعث بتحياته إلى من قاموا بأمور ربهم فأسلموا له قلوبهم وأدوا فرائض شهرهم.
وقال “عبدالحليم محمود”: “إن أمتنا تستحق على تحرير إرادتها في الجهاد، تخوض أقدس معاركها ضد الصهاينة ضد أعداء الله أعداء الإنسانية، كأنهم بنيان مرصوص تستحق التحية على تحقيق إرادتها في ميدان النصر، وإن أمتنا اليوم تستحق أن تطلع إلى النوال الاكبر بالنصر، ترد به الأرض المغتصبة وفتح تسترد به المسجد الأقصى”.
غزالي القرن العشرين
كان الإمام الراحل عبدالحليم محمود زاهداً متأثرا كثيرا بما قراءه عن أعلام التصوف خاصة حجة الإسلام الإمام أبو حامد الغزالي، وهو الأمر الذي دفعه إلي التبحر في كتابه "المنقذ من الضلال"، وبناء كثير من الآراء في الرد علي المهاجمين للتصوف من خلال الأسلوب الفلسفي المرتكز علي أسس من المنطقية حتي وصف بأنه «غزالي القرن العشرين»، بعد أن اختبر الطرق الكلامية والنصية فلم يجد الطريق الصحيح إلا في العبودية والاتباع، بل كان أيضا مجاهداً شجاعاً لا يهاب الموت ولا يخشى الأعداء وظهر هذا جليلاً في صوره من ساحة التدريب لجنودنا البواسل.
فـ الشيخ عبد الحليم محمود الذي درس مذهب النصيين علاقة اليقين بالعقل والمذاهب العقلية سواء في الجو الاسلامي أو الغربي وبين هذه الدراسات جميعا مع دراسة الفلسفة وعلم النفس والاجتماع، ليخلص إلي حقيقة واحدة بأن جوهر الإسلام الصحيح يكمن في اخلاص العبودية واتباع نهج السلف، ويقول في ذلك : وانتهيت من دراسة الدكتوراه وأنا أشعر شعورا واضحا بمنهج المسلم في الحياة وهو منهج الاتباع.، مقويا حجته في انتهاج هذا المنهج من خلال الاستشهاد بمقولة ابن مسعود رضي الله عنه يقول عن هذا المنهج كلمة موجزة كأنها إعجاز من الاعجاز: اتبعوا ولا تبتدعوا فقد كفيتم، خلص من هذا إلي القول : "لقد كفينا وعلينا إذن الاتباع وبعد أن وقن هذا المنهج في شعوري واستيقنته نفسي أخذت أدعو اليه: كاتبا ومحاضرا ومدرسا ثم أخرجت فيه كتابا خاصا هو الاسلام والعقل وكل ما كتبته عن التصوف والشخصيات الصوفية فإنما يسير في فلك هذا المنهج منهج الاتباع.
أبو العارفين
«أبو التصوف»، و «أبو العارفين»، أمور عرف بها في العصور الحديثة وهو عندهم رائد مدرسة الفكر الإسلامي والتصوف في العصر الحديث، فالتصوف عنده صفاء ملائكي يتطلب سلوك طريق من الإيمان والإخلاص والصفا والبحث عن الدرجات العليا في التقرب إلي الله حيث يقول عنه: نظام الصفوة المختارة، إنه نظام هؤلاء الذين وهبهم الله حسا مرهفا، وذكاء حادا، وفطرة روحانية، وصفاء يكاد يقرب من صفاء الملائكة، وطبيعة تكاد تكون مخلوقة من نور.
ويردف في حق المتصوف بأنه الملتزم بتعاليم الدين قولا وعملا حيث يقول: الصوفي هو الذي التزم بتعاليم الإسلام سيرة وسلوكا، وقولا وعملا، وهو الذي يستحضر ذكر ربه في كل وقت؛ فإذا وصل المؤمن إلى إسلام حقيقي يجعله مستحضرا ربه في كل وقت فلن يهتم بمعصيته، ولن يأمر بمنكر، ولن ينهى عن معروف.
وهو أيضا عنده ليس بالقارئ في شأن التصوف حيث يشير إلي ذلك من خلال القول فالصوفي لا يكون صوفيا بالقراءة أو الدراسة والبحث، حتى ولو كانت هذه القراءة والدراسة في الكتب الصوفية نفسها، وفي المجال الصوفي خاصَّة، وقد يكون شخص من أعلم الناس بهذه الكتب، درسها دراسة باحث متأمل، وعرف قديمها وحديثها، وميز بين الزائف منها والصحيح، وصنفها زمنا وميزها أمكنة، وهو مع ذلك لا سهم له، في قليل ولا في كثير في المجالات الصوفية.
وقال في موضع آخر: فالتصوف ليس ثمرة لثقافة كسبية؛ إن الوسيلة إليه ليست هي الثقافة، ولكن الوسيلة إليه إنما هي العمل، إن الطريق إليه إنما هو السلوك، والمعرفة الناشئة عن العمل والسلوك هي إلهام، وهي كشف، وهي ملأ أعلى انعكس على البصيرة المجلوة فتذوقه الشخص حالا، وأحس به ذوقا، وأدركه إلهاما وكشفا.
وحول رحلته إلي عالم التصوف يشير الإمام الأكبر عن نفسه بعد إعداده رسالة الدكتوراه: "بعد تردد بين هذا الموضوع أو ذاك، هداني الله - وله الحمد والمنة - إلى موضوع التصوف الإسلامي، فأعددت رسالة عن (الحارث بن أسد المحاسبي) فوجدت في جو (الحارث بن أسد المحاسبي) الهدوء النفسي، والطمأنينة الروحية، هدوء اليقين، وطمأنينة الثقة، لقد ألقى بنفسه في معترك المشاكل، التي يثيرها المبتدعون والمنحرفون، وأخذ يصارع مناقشا مجادلا، وهاديا مرشدا؛ وانتهيت من دراسة الدكتوراه، وأنا أشعر شعورا واضحا بمنهج المسلم في الحياة، وهو منهج الاتباع. لقد كفانا الله ورسوله كل ما أهمنا من أمر الدين، وبعد أن قر هذا المنهج في شعوري، واستيقنته نفسي، أخذت أدعو إليه كاتبا ومحاضرا، ومدرسا، ثم أخرجت فيه كتاب "التوحيد الخالص" وما فرحت بظهور كتاب من كتبي، مثل فرحي يوم ظهر هذا الكتاب؛ لأنه خلاصة تجربتي في الحياة الفكرية
تراثه العلمي
للإمام الدكتور عبد الحليم محمود إنتاج علمي غزير ومتنوع، فقد ترجم واشترك في ترجمة عدة كتب من الفرنسية إلى العربية، كما حقَّق العديد من كتب التراث، وخاصة في ميداني الفلسفة والتصوف، هذا بالإضافة إلى تأليف عدد كبير من الكتب في الفقه والفلسفة وغيرهما، ومن بين المؤلفات التي اشترك في ترجمتها: الفلسفة اليونانية لألبير ريفو، والمشكلة الأخلاقية لأندريه كريسون، ومن بين الكتب التي حققها : تفسير التستري في جزأين، الطريق إلى الله، وكتاب الصدق للخزاز، المنقذ من الضلال للغزالي، لطائف المنن لابن عطاء الله السكندري.
ومن أهم الكتب التي اشترك في تحقيقها ونشرها: اللمع للطوسي، الرعاية لحقوق الله للمحاسبي، الرسالة القشيرية للقشيري، عوارف المعارف للسهروردي، حكم ابن عطاء الله للشيخ أحمد بن زروق، التعرف لمذهب أهل التصوف للكلا باذي.
ومن بين الكتب التي ألفها: الإسلام والعقل، فلسفة ابن طفيل ورسالته، التفكير الفلسفي في الإسلام، التصوُّف عند ابن سينا، أوروبا والإسلام. وقد كتب سيرته الذاتية في كتاب مهم بعنوان: "الحمد لله هذه حياتي"، سجَّل فيه خلاصة تجربته الفكرية والإنسانية.
وعَبَّر عن منهجه التفصيلي في الإصلاح في كتابه القيم (منهج الإصلاح الإسلامي في المجتمع).
كما ترجم لعشرات الأعلام الصوفيين مثل سفيان الثوري وأبي الحسن الشاذلي وأبي مدين الغوث وغيرهم الكثير.
رحيله عن دنيانا
كانت من أخريات سفرياته استجابته لدعوة الأمين العام للمؤتمر الاقتصادي الإسلامي المنعقد في لندن في الفترة من 30 يونيه إلى 16 من يوليو سنة 1977م، وقد التقى فضيلته بكثير من علماء اللاهوت، وأساتذة مقارنة الأديان بالجامعات الإنجليزية وبمشاهير علماء الاقتصاد، وتقدم بمقترحات مهمة لوضع أسس متينة مقتبسة من الإسلام تتيح نهضة اقتصادية كبرى للشعوب الإسلامية.
وقد تلقت الأمة الإسلامية نبأ وفاته بالأسى في صبيحة يوم الثلاثاء 15 من ذي القعدة 1397هـ، الموافق 17 من أكتوبر 1978م وصلى عليه ألوف المسلمين الذين احتشدوا بالجامع الأزهر ليشيعوه إلى مثواه الأخير تاركًا تُرَاثًا فِكْرِيًّا ذَاخِرًا ما زال يعاد نشره وطباعته.